دور البيانات والدراسات في تطوير قطاع المعارض والمؤتمرات

مقدمة

يشهد قطاع المعارض والمؤتمرات وصناعة الأحداث (MICE) تحوّلًا جوهريًا من العمل الاجتهادي إلى العمل المبني على الأدلة. لم تعد الخبرة وحدها كافية لاتخاذ قرارات تنظيمية وتسويقية وتشغيلية؛ بل أصبحت البيانات والدراسات حجر الأساس لفهم السوق، وتحسين تجربة الزائر، وتعظيم العائدين الاجتماعي والاقتصادي للفعاليات.

هذا المقال يقدّم طرحًا علميًا منظّمًا لدور البيانات والدراسات في تطوير قطاع المعارض والمؤتمرات، مع التركيز على كيفية توظيفها في دورة حياة الحدث، وأنواعها، والتحديات المرتبطة بها، والتوصيات العملية للجهات العاملة في هذا القطاع.

أولًا: مفهوم البيانات والدراسات في سياق صناعة الأحداث

• البيانات (Data):

  هي الأرقام والمعلومات الخام الناتجة عن التسجيل، الحضور، المبيعات، الاستبيانات، التفاعل الرقمي، والملاحظات الميدانية، دون تفسير أو تحليل.

• الدراسات (Studies/Research):

  هي عملية منهجية منظّمة تهدف إلى جمع البيانات، تحليلها، تفسيرها، واستخلاص النتائج والتوصيات. يمكن أن تكون وصفية (تصِف الواقع)، أو تحليلية (تفحص العلاقات والأسباب)، أو تقييمية (تقيس الأثر والجدوى).

في قطاع المعارض والمؤتمرات، تتحوّل البيانات إلى قيمة حقيقية فقط عندما تُدمَج في دراسات ومنهجيات بحثية واضحة، وتُربَط بأسئلة محددة مثل:

• ما خصائص جمهور هذا النوع من الفعاليات؟

• ما القنوات الأكثر فعالية في جذب الحضور؟

• ما العائد الاقتصادي والاجتماعي للفعالية؟

ثانيًا: دور البيانات في دورة حياة المعرض أو المؤتمر

يمكن إدماج البيانات والدراسات في جميع مراحل دورة حياة الحدث، وليس فقط في مرحلة ما بعد التنفيذ:

1. مرحلة التخطيط (Pre-Event)

في هذه المرحلة تُستخدم البيانات لـ:

• تحليل النسخ السابقة من نفس الحدث أو فعاليات مشابهة (عدد الحضور، رضا الزوار، نوعية المشاركين).

• دراسة سوق الفعاليات في المدينة أو القطاع المستهدف: حجم الطلب، الفجوات، المنافسة، توقيت المواسم.

• تقدير الطاقة الاستيعابية المناسبة للموقع، والمتطلبات البشرية والمالية والتقنية.

النتيجة: أهداف أكثر واقعية، فئات مستهدفة محددة بدقة، ونموذج فعالية (Concept) مبني على معرفة لا على الحدس.

2. مرحلة التنفيذ (During Event)

أصبح من الممكن متابعة بيانات الحدث في الوقت الحقيقي (Real-time)، مثل:

• عدد المسجلين مقابل الحضور الفعلي.

• كثافة الحركة في مناطق معينة من المعرض (باستخدام أنظمة العدّ أو الاستشعار).

• تفاعل الجمهور مع الجلسات أو الأنشطة (مدة البقاء، الأسئلة، التصويت، المشاركات الرقمية).

النتيجة: قدرة على التدخل الفوري (مثلاً: إعادة توزيع الفرق، تعزيز نشاطات معينة، تحسين تجربة الدخول)، بدلًا من الاكتفاء بتحليل ما بعد انتهاء الحدث.

3. مرحلة التقييم والمتابعة (Post-Event)

في هذه المرحلة تتحوّل البيانات إلى دراسات وتقارير تساعد على:

• قياس تحقيق الأهداف (Key Performance Indicators – KPIs).

• تقييم رضا الزوار والعارضين والرعاة.

• تقدير الأثر الاجتماعي والاقتصادي.

• وضع أساس علمي لتطوير النسخ القادمة من الحدث أو تصميم فعاليات جديدة.

ثالثًا: أنواع البيانات المهمّة في قطاع المعارض والمؤتمرات

1. بيانات الزوار والمشاركين

• عدد الزوار والفئات العمرية.

• المهنة أو مجال الاهتمام.

• المدينة أو المنطقة الجغرافية.

• مصدر المعرفة بالحدث (منصات اجتماعية، بريد إلكتروني، ترشيح، جهة شريكة…).

هذه البيانات تساعد في فهم جمهور الحدث، وتوجيه الحملات المستقبلية بدقة أكبر.

2. بيانات السلوك والتفاعل داخل الحدث

• الجلسات أو الأجنحة الأكثر زيارة.

• مدة بقاء الزائر في الموقع أو في منطقة معيّنة.

• الأنشطة التي شهدت أعلى مستويات المشاركة.

هذه المؤشرات تساعد في تصميم تجربة زائر أفضل، وتطوير المحتوى والبرنامج في النسخ التالية.

3. بيانات الرضا والانطباعات

• تقييمات تنظيم الحدث، وضوح المعلومات، جودة الخدمات المساندة.

• رضا العارضين أو الرعاة عن العائد الذي حققوه.

• مقترحات التحسين من الجمهور والجهات المشاركة.

هذه البيانات هي أساس الدراسات التقييمية التي تُظهر مكامن القوة ومناطق التطوير.

4. البيانات المالية والاقتصادية

• تكاليف التجهيز والتشغيل والتسويق.

• الإيرادات (تذاكر، رعاية، أجنحة، خدمات إضافية).

• تقدير الأثر الاقتصادي غير المباشر على المحيط (حجز فنادق، مطاعم، نقل…).

هذه البيانات تُستخدم في تحليل الجدوى الاقتصادية للفعاليات، وبناء نماذج استدامة مالية.

رابعًا: أمثلة على دراسات يمكن أن تطوّر القطاع

1. دراسات واقع القطاع على مستوى المدينة أو المنطقة

تهدف لرسم «خريطة» للفعاليات القائمة:

• أنواعها وتوزيعها الزمني والجغرافي.

• الجهات المنظِّمة.

• الشرائح التي تُخدم حاليًا وتلك التي لا تصلها الفعاليات.

هذه الدراسات تدعم صنّاع القرار في تحديد أولويات الدعم والتطوير، وتساعد الجمعيات والجهات في اكتشاف الفرص غير المستغلة.

2. دراسات تجربة الزائر (Visitor Experience Studies)

من خلال استبيانات وملاحظات ميدانية وبيانات سلوكية، يمكن:

• تحسين مسارات الحركة والتجمع.

• تطوير الخدمات والبرامج المساندة.

• تعزيز الهوية البصرية والعاطفية للحدث.

3. دراسات الأثر الاجتماعي والاقتصادي للفعاليات

تركّز على الإجابة عن أسئلة مثل:

• كيف أثّرت الفعالية على مشاركة الشباب أو المتطوعين؟

• ما القيمة الاقتصادية الناتجة عن استضافة مؤتمر أو معرض محدد؟

• ما مدى مساهمة الفعاليات في تحقيق مستهدفات رؤية 2030 (مجتمع حيوي، اقتصاد مزدهر)؟

4. دراسات المهارات والموارد البشرية في قطاع الفعاليات

تُسهم في:

• حصر الوظائف الحرجة في القطاع (تنظيم، تشغيل، تسويق، تقنية، بروتوكول…).

• تحديد الفجوات في التدريب والتأهيل.

• توجيه البرامج التدريبية والجامعية لتلبية احتياجات السوق.

خامسًا: التحديات المرتبطة باستخدام البيانات والدراسات

رغم أهميتها، يواجه توظيف البيانات والبحوث في القطاع عدة تحديات، من أهمها:

1. ضعف ثقافة التوثيق وجمع البيانات لدى بعض المنظمين، والاكتفاء بالتقديرات العامة.

2. غياب معايير موحّدة لجمع وتحليل البيانات بين الجهات المختلفة، مما يصعّب المقارنات والدراسات المشتركة.

3. نقص الكفاءات المتخصصة في التحليل الإحصائي والبحث العلمي داخل فرق تنظيم الفعاليات.

4. الاعتبارات الأخلاقية وحماية الخصوصية عند جمع بيانات الزوار والمشاركين، والحاجة لالتزام المعايير النظامية في هذا الجانب.

سادسًا: توصيات عملية لتفعيل دور البيانات والدراسات في تطوير القطاع

1. إدماج البحث والتقييم كجزء ثابت من كل فعالية

   • تخصيص بند واضح في خطة الحدث لجمع البيانات وتحليلها.

   • اعتبار التقرير الختامي (الرقمي والتحليلي) مخرجًا إلزاميًا لكل فعالية.

2. بناء قواعد بيانات تراكمية على مستوى الجهة

   • أرشفة بيانات الحضور والتفاعل والرضا عبر السنوات.

   • استخدام هذه القواعد لرصد الاتجاهات (Trends) وتطوير الاستراتيجيات.

3. التعاون مع الجامعات والمراكز البحثية

   • عقد شراكات لإجراء دراسات مشتركة.

   • إشراك طلاب وباحثين في تحليل بيانات الفعاليات كمشاريع تخرّج أو أبحاث علمية.

4. تطوير أدوات قياس الأثر الاجتماعي والاقتصادي

   • اعتماد نماذج قياس واضحة (قبل–أثناء–بعد).

   • توثيق قصص النجاح والأثر الإنساني إلى جانب المؤشرات الكمية.

5. تدريب الكوادر على مهارات تحليل البيانات والبحث

   • تنظيم دورات متخصصة لمنظمي الفعاليات حول أساسيات البحث الكمي والنوعي.

   • تشجيع بناء فرق داخلية مسؤولة عن الرصد والتقييم.

خاتمة

يشكّل توظيف البيانات والدراسات في قطاع المعارض والمؤتمرات وصناعة الأحداث انتقالًا من منطق الحدث الفردي إلى منطق المنظومة المعرفية؛ حيث تتحوّل كل فعالية إلى فرصة للتعلّم، وكل رقم إلى مدخل لقرار أفضل، وكل تقرير إلى لبنة في بناء قطاع أكثر نضجًا واحترافية.

وعندما تتبنّى الجمعيات المتخصصة والجهات المنظمة منهجية «القرار المبني على البيانات»، فإنها لا تطوّر فعالياتها فحسب، بل تسهم في بناء بنية تحتية معرفية تدعم تطوّر المدينة والقطاع على المدى الطويل.ابدأ الكتابة من هنا...